قراءة تحليلية في خطاب استقالة الدكتور أحمد عوض بن مبارك

د. صبري عفيف العلوي
بين اللغة والسياسة: احتجاج ناعم وانسحاب محسوب من مشهد مرتبك”لم أُمنح صلاحياتي”… بن مبارك ينسحب بصمت صارخ يفضح عمق الأزمة السياسية
……
جاء خطاب الاستقالة في لحظة مفصلية دامية، اتسمت بتواصل الأزمات، وانهيار التوافق، وتمزق القرار داخل ما يُعرف بالسلطة الشرعية، ومع تعثر توفير أساسيات الحياة في العاصمة عدن، واتساع فجوة الثقة بين أطراف الصراع، غرقت الحكومة شيئًا فشيئًا في عجز مؤلم، لم تستطع خلاله أن تصنع فارقًا لا في بناء الدولة، ولا في لملمة جراح شعب أثقلته الحروب والتجاذبات.
في قلب هذا المشهد المأزوم، والضبابي، والمثقل بالخسارات، اختار رئيس الوزراء أحمد عوض بن مبارك أن يترجل عن منصبه، في خطوة بدت صامتة في ظاهرها، لكن خطاب الاستقالة الذي أعلنه كان يصرخ بين السطور بمرارة الواقع، ووجع الإقصاء، وحرقة الفرص المهدورة. لقد حمل الخطاب بين كلماته تعبيرًا عميقًا عن خيبة رجل حاول، لكنه لم يُمكَّن، اجتهد، لكنه أُعيق، أراد أن يصنع ضوءًا في عتمة الانقسام، فقُيّدت يده، وصودر صوته.
دوافع إدارية – سياسية:
لم تكن الاستقالة نوبة غضب، بل اعترافًا هادئًا بانسداد الأفق. تكررت عبارات “عدم تمكيني”، وكأنها أنين خافت يكشف عن جرح عميق في هيكل السلطة، حيث تُصنع القرارات في الظل، وتُفرغ المناصب من مضمونها. هذا التكرار لم يكن لغويًا فحسب، بل نداء احتجاج ناعم ضد توازن مختل لم يترك لرئيس الحكومة سوى هامش ضيق للحركة.
“وفاءً لقسمي”، “حرصًا على وحدة الدولة”… كلمات تقطر بالولاء والألم، تحاول أن تُخرج الاستقالة من عباءة الحسابات السياسية الضيقة إلى فضاء أوسع من المسؤولية الوطنية. لم يكن الخطاب دفاعًا عن الذات، بل شهادة دامعة على عجز الدولة، وعزلة القرار، وخيانة التمكين.
لمجلس القيادة الرئاسي: الرسالة جاءت صامتة لكنها حاسمة: لم تُمنح الحكومة حقها، ولم يُحترم موقعها. للرأي العام: محاولة لتبرئة النفس دون مزايدة، والتأكيد على أن الإنجاز كان ممكنًا لولا القيود. للمجتمع الدولي: عرضٌ صادق لما تحقق في ظل العجز – توفير 330 مليون دولار، إنهاء عقود الطاقة، سياسة ترشيد ناجحة – لكنها بقيت بلا امتداد لأن النظام هش، والمناخ السياسي معطوب.
جاءت الصيغة بصوت شخصي صادق: “بذلتُ، واجهتُ، أقدّمُ”، وكأنها اعتراف وداعي لرجل لم يُهزم، لكنه اختار الانسحاب من مسرح ضاع فيه الصوت، وغابت فيه الرؤية. الانتقال من الماضي إلى الحاضر في “أضع أمامكم استقالتي” لحظة درامية موجعة، تُجسّد لحظة كسر سياسي.
تتجاور أفعال الإنجاز: “حققنا”، “اعتمدنا”، “وفّرنا”، مع أفعال الخذلان: “لم أُمكَّن”، “لم أستطع”، “التحديات”. هذا التناقض يُجسّد مأساة رجل وسط دولة تائهة. تكرار عبارة “في العاصمة عدن” لم يكن عبثيًا، بل تأكيدًا حزينًا أن العجز بلغ ذروته حتى في المركز المفترض للسلطة.
“التضحيات”، “صبر شعبنا”، “المرحلة الحساسة” – كلمات تُثقّل النص بمشاعر وطنية جارحة، وتجعل من الاستقالة فعلًا سياسيًا يقطر بالحزن أكثر مما يصرخ بالغضب.
بداية بالتضحيات، ثم سرد العوائق، ثم عرض الإنجازات، وأخيرًا الاستقالة… كل هذا بُني بإيقاع يلامس الوجدان، ويُحاكي لحظة انكسار رجل كان في قلب العاصفة، لكنه اختار المغادرة بصمت ثقيل.
الاستقالة ليست فقط نهاية ولاية، بل صفعة ناعمة على وجه سلطة مشلولة، تحوّلت فيها الحكومة إلى صورة، بلا مضمون. بهذا الخطاب، فتح أحمد عوض بن مبارك الباب أمام احتمالات جديدة: تغيير حكومي، أو مراجعة عميقة لعلاقات القوة داخل “الشرعية”، وربما إعادة تفكيك وتركيب الحكومة من جديد.
مما سبق تبين أن خطاب استقالة بن مبارك ليس بيان وداع، بل مرآة عاكسة لأزمة الحكم، كُتب بلغة تنزف صدقًا وألمًا، ووازن بين الإقرار بالفشل والاحتفاظ بالكرامة. خرج بهدوء، لكنه قال الكثير. انسحب في لحظة ازدحمت بالتناقضات، فبدا صمته أعلى من كل الضجيج.
الملحق نص الاستقالة
بذلت صادقا ومن على ارض الوطن كل ما استطعنا من جهد للمساهمة في معركتنا لاستعادة الدولة وهزيمة الانقلاب الحوثي ومحاربة الفساد والإصلاح الإداري والمالي وإعادة بناء مؤسسات الدولة في العاصمة عدن ورغم اني واجهت الكثير من الصعاب والتحديات لعل أهمها عدم تمكيني من العمل وفقا لصلاحيات الدستورية في اتخاذ القرارات اللزمة لإصلاح عدد من مؤسسات عدم تمكيني من اجراء التعديل الحكومي المستحق الا اننا وفي فترة قصيرة جدا حققنا الكثير من الإنجازات خلال المسارات الخمسة التي تبنيتها اولويات لي كرئيس وزراء لاسيما في مسارات الإصلاح المالي والإداري ومكافحة الفساد وتفعيل حضور مؤسسات الدولة وقياداتها في العاصمة عدن والاستفادة من المنح,.
رغم ذلك حققنا خلال سنة واحدة فقط وفر قدر 330 مليون دولار من فاتورة شراء وقود للكهرباء عدن ومثلها من انهاء الطاقة المشتراة بالإضافة لاعتماد سياسة ترشيد الانفاق والتي وفرت مليارات الريالات كان ذلك لا يتحقق لولا دعم عدد من زملائي في مجلس الوزراء وفريق عملي واحاطة بدعوات المواطنين والخيرين من أبناء شعبنا.
ووفاء مني وعهدي وقسمي الذي ادبته وحرصا مني على وحدة كافة مكونات الدولة اليمنية لتوجهه كافة جهودها لمستوى يرتقي لتضحيات شعبنا وصبره وتوقه للخلاص في هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا فأني أقدم استقالتي من منصبي رئيسا للوزراء واضعا امامكم وأمام الاخوة أعضاء قيادة مجلس القيادة الرئاسي متمنيا لم يكلف بعدي كل التوفيق والنجاح…