تقارير وتحليلات

من الأمن إلى التعليم.. هكذا ترسم الإمارات خارطة شاملة لتجفيف منابع التطرف

الجنوب اونلاين| خاص

في منطقة تعاني منذ عقود من تحديات التطرف الديني والعنف المسلح، برزت دولة الإمارات العربية المتحدة كنموذج مختلف في التعامل مع هذه الظاهرة، ليس من زاوية الأمن فقط، بل من خلال تبني رؤية شاملة تستند إلى الفكر والثقافة والدين والإعلام والتنمية. فقد اختارت أبوظبي طريقًا يجمع بين الحزم في التصدي للتهديدات، والمرونة في بناء خطاب بديل يُعزز قيم التعايش ويجفف منابع الكراهية.

هذه المقاربة المتوازنة جعلت من الإمارات شريكًا عالميًا يُعتمد عليه في الحرب ضد التطرف، بل وأحد رواد التحول الثقافي في العالم العربي نحو خطاب ديني حضاري منفتح.

من المعالجة الأمنية إلى الوقاية الفكرية

على خلاف التجارب التقليدية التي ربطت مكافحة التطرف بالإجراءات الأمنية المباشرة، انطلقت الإمارات من فرضية مختلفة: التطرف ليس مجرد انحراف فكري، بل نتيجة تراكمات اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية. وهو ما يعني أن مواجهته تتطلب استراتيجية وقائية شاملة، تُعالج البيئة الحاضنة له، وتُعيد صياغة المفاهيم التي يُستغل فيها الدين لتبرير العنف.

لذلك، أسّست الإمارات مؤسسات متخصصة في تفكيك الخطاب المتطرف مثل “مركز هداية” و”مركز صواب”. الأول يعمل على تعزيز الحوار وتبادل الخبرات بين الدول في مجال مكافحة التطرف، والثاني يركز على محاربة الدعاية المتطرفة عبر الإنترنت، مستخدمًا الوسائل الرقمية للرد على خطاب الجماعات المتشددة بلغاتها وأساليبها.

تأميم الخطاب الديني وضبطه

جزء مهم من نجاح النموذج الإماراتي يكمن في إدراك الدولة لأهمية ضبط الخطاب الديني. لم تترك المنابر الدينية في يد جماعات متشددة أو وعاظ غير مؤهلين، بل عملت على تطوير مؤسسات دينية رسمية مثل الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف، وأعادت تنظيم الإفتاء عبر مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي.

والأهم، أنها طرحت نموذجًا للتدين المدني، يقوم على احترام التعددية ونبذ الإقصاء، ويضع الدين في خدمة الاستقرار لا في خدمة المشاريع السياسية. فالإمارات لا تتبنّى “إسلامًا سياسيًا”، بل “إسلامًا حضاريًا”، يقدم الدين كقوة ناعمة للتواصل والتسامح.

مشاريع التسامح: من المبادرات إلى المؤسسات

في 2016، أنشأت الإمارات وزارة للتسامح، في خطوة غير مسبوقة في العالم العربي. تلاها إصدار قانون مكافحة التمييز والكراهية، وهو إطار قانوني صارم يجرّم أي تحريض على الكراهية الدينية أو الطائفية.

كما دعمت الدولة العديد من المبادرات التي تعزز قيم التعايش، مثل “وثيقة الأخوة الإنسانية” التي وُقّعت في أبوظبي بين شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان عام 2019. وأسست “بيت العائلة الإبراهيمية” كموقع رمزي يجمع مسجدًا وكنيسة وكنيسًا في مكان واحد، تجسيدًا عمليًا لفكرة التقارب بين الأديان.

هذه الجهود لم تكن رمزية فقط، بل شكلت رافعة حقيقية لتغيير المزاج العام تجاه الآخر، ورسّخت في الذهنية الإماراتية أن التنوع ليس تهديدًا، بل مصدر غنى اجتماعي وثقافي.

دور الإعلام والتقنية في مواجهة التطرف

فهمت الإمارات أن المعركة ضد التطرف تدور أيضًا في الفضاء الرقمي. لذا، استثمرت بقوة في الإعلام الوطني والمنصات الرقمية لنشر خطاب معتدل ومهني. أطلقت منصة “صواب” بالتعاون مع الولايات المتحدة كأحد أبرز المشاريع في العالم العربي للتصدي لدعاية “داعش” على الإنترنت.

كما دعمت إنتاج محتوى ثقافي وفني يُعزز القيم الإنسانية، وعملت على مأسسة قطاع الإعلام بطرق تقلل من تأثير الخطاب التحريضي، وتمنح مساحة للأصوات المعتدلة والمستنيرة.

الاستثمار في التعليم والهوية الوطنية

لا يمكن الحديث عن تحصين المجتمع دون الإشارة إلى التعليم. فقد قامت الإمارات بمراجعة المناهج الدراسية لضمان خلوّها من أي مضامين تعزز الانغلاق أو الكراهية. كما عززت التعليم المدني، وثقافة الحوار والقبول بالآخر في المدارس والجامعات.

وضمن هذا الإطار، أطلقت الدولة “البرنامج الوطني للتسامح” الذي يستهدف غرس هذه القيم في الأطفال والشباب، وهو ما يعكس رهانًا طويل المدى على بناء أجيال جديدة أقل عرضة للتطرف وأكثر انفتاحًا على العالم.

دور إقليمي يتجاوز الحدود

لم تقتصر جهود الإمارات على الداخل. بل انخرطت في جهود إقليمية لدعم الاستقرار ومحاربة الميليشيات المتطرفة في دول مثل اليمن وليبيا وسوريا. هذه الأدوار لا تُفهم فقط في سياق الصراعات، بل ضمن رؤية استراتيجية تعتبر أن أمن المنطقة مترابط، وأن ترك مناطق النزاع دون تدخل، يفتح الباب أمام تمدد الجماعات الإرهابية.

كما دعمت الإمارات القوات الأمنية المحلية في عدد من الدول، وقدّمت مساعدات إنسانية وتنموية، في محاولة لقطع الطريق أمام عودة التطرف من بوابة الفقر والحرمان.

شريك دولي في مواجهة التهديدات الجديدة

نتيجة لهذه السياسات، باتت الإمارات تُصنف كشريك موثوق على الصعيد الدولي في مجال مكافحة الإرهاب. وتشارك بانتظام في منتديات دولية، وتستضيف اجتماعات دولية حول التطرف والأمن الإلكتروني وجرائم الكراهية.

وقد أشادت تقارير أوروبية وأمريكية بدور الإمارات في توفير بيئة مستقرة ومحفّزة للاعتدال، خاصة في ظل تصاعد المدّ الشعبوي في بعض الدول، ما جعلها ملاذًا للتفكير العقلاني والنقاش الهادئ في قضايا الدين والسياسة والهوية.

خاتمة: نموذج قابل للتكرار؟

لا تدعي الإمارات أنها تملك وصفة سحرية للقضاء على التطرف، لكنها تطرح مقاربة قابلة للتطبيق في العالم العربي. نموذج لا يُقصي الدين من الحياة العامة، ولا يتركه فريسة للغلو، بل يُعيد دمجه في مشروع وطني يربط بين الأمن والتنمية، وبين الهوية والانفتاح.

قد لا يكون الطريق سهلًا، لكن التجربة الإماراتية تُثبت أن بالإمكان كسر الحلقة المفرغة التي تجعل من التطرف قدرًا، وتفتح الباب أمام دولة عربية تقدم خطابًا جديدًا، يوازن بين الحداثة والتقاليد، ويجعل من التسامح عقيدة سياسية وثقافية دائمة، لا مجرد شعار مؤقت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى