خيارات الجنوب بعد انهيار الحوثي

بقلم/ نورا المطيري
تحولات كبرى تشهدها المنطقة إثر الاستهداف الإسرائيلي لمقر حكومة الحوثيين في صنعاء، نهاية الأسبوع الماضي، والذي أدى إلى تحييد رئيس وزراء الحوثي الإرهابية وعدد من الوزراء البارزين، وسيؤدي إلى مزيد من الانقسامات الحادة داخل الجماعة.
هذه الضربة العسكرية المباغتة وقعت كزلزال سياسي هدم الهيكل الإداري للحوثيين وأدخل مشروعهم في حالة فراغ غير مسبوق. وإذا استمر الانتقام الإسرائيلي، بسبب قصف الحوثي لتل أبيب بالمسيرات وتهديد الملاحة البحرية، فلا شك أننا سنشهد تغييرا جذريا في كافة المعادلات التي تحكم صنعاء واليمن الشمالي والجنوب العربي، وفي المنطقة بأسرها.
الجنوب العربي، على وقع ذلك، يقف أمام لحظة تاريخية فارقة تتيح له أن يعيد ترتيب أوراقه، ويطرح نفسه كخيار استراتيجي للاستقرار الإقليمي، في وقت تتداعى فيه قوة خصومه جميعا وتتصدع جدران سلطتهم وسطوتهم وفسادهم وإرهابهم الذي دام لسنين طويلة.
فمنذ “الوحدة المشؤومة” في عام 1990، ظل الجنوب العربي أسيرا لهيمنة الشمال، ودفع ثمن حرب 1994 وسياسات التهميش والإقصاء والاحتلال القسري لمقدرات الجنوب وتجويع شعبه وتجهيل أبنائه، ومع صعود الحوثيين وسيطرتهم على صنعاء عام 2014 بمساعدة حزب الإصلاح الإخواني الخائن، تحول اليمن بشطريه إلى ساحة صراع إقليمي ودولي، يتقاطع فيها النفوذ الإيراني مع النزاعات الداخلية.
ولكن ومع سقوط رأس الحكومة الحوثية ونفاد خيارات الحوثي، ووقوع إيران نفسها تحت تفعيل آلية الزناد، يبدو أن الجنوب العربي، ممثلا بالمجلس الانتقالي الجنوبي، بقيادة عيدروس الزبيدي، قد يتجه نحو خياره الأول الاستراتيجي وهو التقدم بخطوات ثابتة نحو استعادة دولته على حدود 1990، لأن أي خيار آخر يسلكه يعني السماح للفوضى بالتمدد مجددا.
تاريخيا، تطل هذه النافذة على أحداث تغيير نادرة. فمثلا بعد انهيار نظام ميلوسيفيتش في بلغراد، ومع فارق التشبيه، نشأت دول جديدة من رحم يوغوسلافيا، بعضها اندمج في الاتحاد الأوروبي، وبعضها لا يزال يبحث عن استقراره. لذلك فإن انهيار البنية الإدارية الحوثية سيدفع نحو سيناريوهات مشابهة، حيث يتعين على القوى الإقليمية والدولية أن ترسم ملامح مرحلة “اليوم التالي” وهي مرحلة “ما بعد الحوثي”، وعلى الجنوب أن يحدد خياراته بوضوح، وأن يبادر فورا إلى اتخاذ قرارات مصيرية حازمة.
من الخيارات المطروحة أمام الزبيدي والمجلس الانتقالي الجنوبي، هو دراسة عميقة لسيناريو “تجربة 2001 في أفغانستان”، حين انهار نظام طالبان الأول تحت ضربات التحالف الدولي، ما سمح بالتحرك لإعادة بناء نظام سياسي جديد في كابول. أي هو خيار استراتيجي بوضع خطة شاملة تضمن الحسم العسكري، عبر تحالف إقليمي ودولي يستثمر في لحظات انهيار الحوثي الإرهابي، ولابد من وضع الخطة امام قيادات التحالف التي يمكنها دعم هذا الخيار، بشكل أو بآخر، فيصبح المجلس الانتقالي الجنوبي هو رأس الحربة في عملية استئصال نهائية تضمن التخلص من نفوذ الحوثي، وقد تضمن مخرجاتها إعادة الاعتراف الدولي بدولة الجنوب المستقلة.
وبما أن الحوثي المدعوم من ايران لا يريد السلام، وقد أعلن ذلك بسلوكه الإرهابي عشرات المرات، فإنني أعتقد أن توجه المجلس الانتقالي الجنوبي نحو خياره الوحيد المطروح يحتاج أيضا إلى وحدة شمولية في الصف الجنوبي، فمثلا تمثل حضرموت ركن أساسي في المعادلة، وكما أشرت سابقا، فإن أي انقسام بين حلف قبائل حضرموت والمجلس الانتقالي سيمنح الحوثيين والإخوان فرصة ذهبية لزرع الفوضى. لذلك، تبدو المصالحة الجنوبية أولوية استراتيجية لا تقل أهمية عن مواجهة الحوثيين.
المشهد الدولي أيضا يلعب دورا محوريا. الولايات المتحدة وأوروبا تراقبان انهيار الحوثيين باهتمام بالغ، لما يعنيه ذلك من تهديد محتمل لمضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية لنقل الطاقة في العالم. ولا شك أن أي فراغ في صنعاء سيمنح إيران فرصة لمحاولة إعادة التموضع، كما حدث بعد سقوط صدام حسين في العراق عام 2003. لذلك فإن عودة دولة الجنوب العربي أصبح اليوم خيارا استراتيجيا للدول الكبرى، حيث إن وجود دولة مستقرة عاصمتها عدن سوف يضمن بلا شك أمن الملاحة، ويحدّ من التمدد الإيراني، ويوفر شريكا يمكن الاعتماد عليه في ملفات مكافحة الإرهاب.
أثبتت السنوات الماضية أن الوحدة القسرية بين الشمال والجنوب لم تنتج سوى الحروب والأزمات. واليوم، تتعزز القناعة بأن الحل يكمن في الاعتراف بواقع دولتين: شمال يعيد بناء نفسه ضمن معادلات جديدة تتخلص من الإخوان والفاسدين وإرث الدولة الهزيلة، وجنوب يستعيد مقعده في الأمم المتحدة ويصبح جزءا من شبكة الأمن الإقليمي في ظل قيادة السعودية والإمارات وباقي دول الخليج العربي.
من وجهة نظري، فإن الجنوب العربي قد يشهد أعتاب فجر جديد، حيث إن انهيار الحوثيين خلق وسيخلق بلا شك قريبا فراغا استراتيجيا، والجنوب، حسب معلوماتي، سيكون وحده القادر على ملء هذا الفراغ برؤية سياسية متماسكة، وعلى المجلس الانتقالي الجنوبي أن يستثمر في اللحظة، وأن يوحّد القبائل والنخب حول مشروع الدولة، وأن ينفتح على دعم التحالف العربي والمجتمع الدولي، ويكثف من اتصالاته الخارجية الديبلوماسية والسياسية، فالفرصة التي تلوح الآن قد لا تعود، والتاريخ لا يمنح الشعوب سوى فسحة قليلة لتصنع مصائرها. والجنوب العربي، إذا ما أحسن استغلال هذه الفرصة، سيكون قادرا على أن يكتب فصلاً جديدا في كتاب المنطقة: فصل عودة “دولة الجنوب العربي” التي تعيد التوازن إلى الخليج والإقليم، وتفتح نافذة أمل لشعوب أنهكتها الحروب.