رآي وفكر

غياب الجنوب عن المجتمع المدني والدبلوماسية.. فاتورة باهظة ندفعها باستمرار


بقلم/ مناف الكلدي

أعادت التقارير الأخيرة الصادرة عن بعض المنظمات الدولية – وفي مقدمتها منظمة “هيومن رايتس ووتش” – والتي تحدّثت عن “قيود على الصحافة” في الجنوب، الجدل مجددًا حول واحدة من أكثر القضايا أهمية وحساسية، وهي ضرورة أن يعيد المجلس الانتقالي الجنوبي النظر في مستوى حضوره داخل مؤسسات المجتمع المدني والبعثات الدبلوماسية والسفارات حول العالم.

ففي كل مرة يصدر فيها تقرير من هذا النوع، نكتفي في الجنوب بالتشكيك في دوافعه واتهامه بالكيدية والانحياز، دون أن نتوقف عند الأسباب العميقة التي تجعل مثل هذه المنظمات تتبنى روايات بعيدة عن الواقع، والحقيقة أن جزءًا كبيرًا من المسؤولية يقع علينا نحن، لأننا لم ننجح حتى الآن في بناء حضور مؤسسي فاعل داخل هذه الدوائر المؤثرة، لا في الداخل ولا في الخارج.

التقرير الأخير الذي تحدث عن تقييد حرية الصحافة في الجنوب يتجاهل حقيقة يعرفها الجميع وهي أن البيئة الإعلامية في العاصمة عدن ومحافظات الجنوب هي الأكثر انفتاحًا في البلاد، وأن الصحفيين يمارسون عملهم فيها بحرية لا يجدونها في مناطق تابعة لحزب الإصلاح في مأرب وتعز، ولا في مناطق سيطرة جماعة الحوثي في صنعاء.

صحيح أن هناك حوادث فردية قد تقع هنا أو هناك – كما يحدث في أي دولة – لكنها غالبًا ما تُعالج بسرعة ووفق القانون، أما في مناطق الحوثي والإخوان، فقد شهدنا انتهاكات صارخة تصل إلى حد الاختطاف والتعذيب والإخفاء القسري، ومع ذلك لم نرَ تلك المنظمات تصدر تقارير بنفس الحدة أو اللهجة.

والسبب في ذلك لا يعود فقط إلى الانحياز، بل إلى الحضور القوي والمتجذر للقوى والأحزاب اليمنية داخل المنظمات الدولية ومؤسسات المجتمع المدني.
فالإخوان والحوثيون وغيرهم يدركون أهمية هذه المساحة، ويعملون منذ سنوات على اختراقها والتأثير في أجندتها أما نحن في الجنوب، فما زلنا نغيب عن هذا المشهد إلى حد كبير.

إن واحدة من أهم الخطوات التي يجب أن يتبناها المجلس الانتقالي في المرحلة المقبلة هي تأسيس وبناء مؤسسات وسيطة قوية وفاعلة في الداخل، تشمل منظمات مجتمع مدني مهنية وحقوقية وصحفية، تكون قادرة على إنتاج تقارير موضوعية وموثوقة وتقديم رواية الجنوب بوضوح للمنظمات الدولية.

وجود مثل هذه المؤسسات لا يقل أهمية عن أي إنجاز سياسي أو عسكري، لأنها تمثل خط الدفاع الأول عن صورة الجنوب وقضيته في الخارج، وتُسهم في تفنيد المزاعم التي يروج لها الخصوم ومن دونها سنظل عرضة للتشويه وسوء الفهم.

الأمر لا يتوقف عند المجتمع المدني فحسب، بل يمتد إلى الدبلوماسية الخارجية فالتقرير الذي صدر مؤخرًا عن السفارة الأمريكية بشأن “منع فعالية لحزب الإصلاح” يثبت مرة أخرى أن غياب الصوت الجنوبي في المحافل الدبلوماسية يترك الساحة فارغة أمام خصومنا.

لقد حان الوقت لأن يكون للمجلس الانتقالي حضور دبلوماسي فعّال منظم، من خلال ممثلين في السفارات والبعثات الدولية والمنظمات الإقليمية، فهذا ليس ترفًا سياسيًا، بل استحقاق جنوبي مشروع، خاصة أن المجلس شريك في الحكومة ويمثل قضية عادلة تتطلب الدفاع عنها في كل المحافل.

إن ما يجري اليوم ليس مجرد معركة بيانات وتقارير، بل معركة رواية وصورة ومن ينجح في تقديم روايته وإقناع المجتمع الدولي بها هو من يملك زمام المبادرة وقد أدرك خصومنا هذه الحقيقة منذ زمن، فاستثمروا فيها بذكاء وفاعلية.

أما نحن، فما زلنا نتعامل مع هذه الملفات بردود الفعل لا بالفعل، ونترك المجال مفتوحًا للتأويلات والتشويه وهذا ما يجب أن يتغير إذا أردنا أن نحمي قضيتنا ونُظهر للعالم الوجه الحقيقي للجنوب وتجربته السياسية والحقوقية.

خلاصة فإن التقارير الكيدية التي تصدر بين الحين والآخر لن تتوقف ما لم نغيّر نحن طريقة تعاملنا مع ملفي المجتمع المدني والدبلوماسية.
وعلينا كجنوبيين أن نبني حضورًا مؤسسيًا قويًا في الداخل، وأن نؤسس شبكة علاقات واسعة في الخارج، وأن نمتلك أدواتنا الخاصة لتوضيح الصورة والدفاع عن أنفسنا.

ففي النهاية، لا أحد سيدافع عن الجنوب أفضل من أبنائه، ولا أحد سيُصحّح الصورة ما لم نكن نحن جزءًا من صناعتها وإدراك هذه الحقيقة والعمل بمقتضاها هو الطريق الوحيد لتجاوز التشويه الممنهج الذي تتعرض له قضيتنا العادلة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى